فصل: تفسير الآية رقم (70):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وأخرج أحمد وابن المنذر عن أبي ذر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أعطيت خمسًا لم يعطهن أحد قبلي: بعثت إلى الأحمر والأسود، وجعلت لي الأرض مسجدًا وطهورًا، وأحلت لي الغنائم ولم تحل لأحد كان قبلي، ونصرت بالرعب فيرعب العدوّ وهو مني مسيرة شهر، وقال لي: سل تعطه. فاختبأت دعوتي شفاعة لأمتي وهي نائلة منكم إن شاء الله من لقي الله لا يشرك به شيئًا، وأحلت لأمتي الغنائم».
وأخرج ابن مردويه عن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لم تكن الغنائم تحل لأحد كان قبلنا، فطيبها الله لنا لما علم الله من ضعفنا»، فأنزل الله فيما سبق من كتابه إحلال الغنائم {لولا كتاب من الله سبق لمسكم فيما أخذتم عذاب عظيم} فقالوا: والله يا رسول الله، لا نأخذ لهم قليلًا ولا كثيرًا حتى نعلم أحلال هو أم حرام؟ فطيبه الله لهم، فأنزل الله تعالى: {فكلوا مما غنمتم حلالًا طيبًا واتقوا الله إن الله غفور رحيم} فلما أحل الله لهم فداهم وأموالهم. قال الأسارى: ما لنا عند الله من خير قد قتلنا وأسرنا، فأنزل الله يبشرهم {يا أيها النبي قل لمن في أيديكم من الأسرى} [الأنفال: 70] إلى قوله: {والله عليم حكيم} [الأنفال: 71].
وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس رضي الله عنه قال: كانت الغنائم قبل أن يبعث النبي صلى الله عليه وسلم في الأمم، إذا أصابوا منه جعلوه في القربان وحرم الله عليهم أن يأكلوا منها قليلًا أو كثيرًا، حرم ذلك على كل نبي وعلى أمته، فكانوا لا يأكلون منه ولا يغلون منه ولا يأخذون منه قليلًا ولا كثيرًا إلا عذبهم الله عليه، وكان الله حرمه عليهم تحريمًا شديدًا فلم يحله لنبي إلا لمحمد صلى الله عليه وسلم، قد كان سبق من الله في قضائه أن المغنم له ولأمته حلال، فذلك قوله يوم بدر في أخذه الفداء من الأسارى {لولا كتاب من الله سبق لمسكم فيما أخذتم عذاب عظيم}.
وأخرج الخطيب في المتفق والمفترق عن ابن عباس رضي الله عنهما، لما رغبوا في الفداء أنزلت: {ما كان لنبي...} إلى قوله: {لولا كتاب من الله سبق} الآية. قال: سبق من الله رحمته لمن شهد بدرًا، فتجاوز الله عنهم وأحلها لهم. اهـ.

.فوائد لغوية وإعرابية:

قال ابن عادل:
{فَكُلُواْ مِمَّا غَنِمْتُمْ حلالا طَيّبًا}
قوله: {حَلاَلًا}
نصبٌ على الحَالِ، إمَّا من ما الموصولةِ، أو من عائدها إذَا جعلناها اسمية.
وقيل: هو نعتُ مصدرٍ محذوف، أي: أكْلًا حلالًا.
وقوله: {واتَّقُوا} قال ابنُ عطية: وجاء قوله: {واتَّقُوا اللَّهَ} اعتراضًا فصيحًا في أثناء القولِ؛ لأنَّ قوله: {إِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ} متصلٌ بقوله: {فَكُلُواْ مِمَّا غَنِمْتُمْ} يعني: أنه متصلٌ به من حيث إنه كالعلة له.
والمعنى: واتقوا اللَّهَ ولا تُقْدِمُوا بعد ذلك على المعاصي واعلموا أنَّ اللَّه غفور لما أقدمتم عليه من الزلة. اهـ.

.من لطائف وفوائد المفسرين:

.من لطائف القشيري في الآية:

قال عليه الرحمة:
{فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلَالًا طَيِّبًا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (69)}
الحلال ما كان مأذونًا فيه، والحلالُ الطيِّبُ أنْ تعلم أن ذلك مِنْ قَبلِ الله فضلًا، وليس لَكَ مِنْ قَبْلِكَ استحقاقًا.
ويقال الحلال الصافي ما لم يَنْسَ صاحبُه فيه معبوده.
ويقال هو الذي لا يكون صاحبُه عن شهود ربِّه- عند أخذه- غافلًا. اهـ.

.قال التستري:

وقوله: {فَكُلُواْ مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلاَلًا طَيِّبًا} [69] قال: الحلال ما لا يعصى الله فيه، والطيب ما لا ينسى الله فيه. اهـ.

.تفسير الآية رقم (70):

قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ مِنَ الْأَسْرَى إِنْ يَعْلَمِ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْرًا يُؤْتِكُمْ خَيْرًا مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (70)}

.مناسبة الآية لما قبلها:

.قال البقاعي:

ولما علم من هذا إباحة ما يؤخذ من الأسر من الفداء، وكان ما يؤخذ منهم تعظم مشقته عليهم، أقبل عليهم مستعطفًا لهم ترغيبًا في الإسلام، فأقبل على نبيه صلى الله عليه وسلم بالأمر بمخاطبتهم تنبيهًا على أنهم ليسوا بأهل لخطابه سبحانه بما أبعدوا أنفسهم عنه من اختيارهم الكون في زمرة الأعداء على الكون في عداد الأولياء، فقال معبرًا بالوصف الناظر إلى تلقي العلم ترغيبًا في التلقي منه صلى الله عليه وسلم: {يا أيها النبي} أي الذي أنبئه بكل معنى جليل، يظهر دينه ويزكي أمته مع رفع مقداره وإتمام أنواره {قل لمن في أيديكم} أي في أيدي أصحابك وأهل دينك، فإن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب {من الأسرى} ترغيبًا لهم فيما عند الله: {إن يعلم الله} بما له من صفات الجلال والجمال {في قلوبكم خيرًا} أي شيئًا من تقواه الحاملة على الإيمان الذي هو رأس الخير وعلى كل خير {يؤتكم خيرًا مما أخذ منكم} أي مما يفتح به عليكم من المغانم في الدنيا ويدخره لكم من الثواب في الأخرى {ويغفر لكم} أي ما سلف من ذنوبكم {والله} أي الذي بيده كل شيء {غفور رحيم} أي من شأنه ذلك، والمعنى على ما علم من قصة العباس الآتيه- رضى الله عنهم- أنه سبحانه يعاملكم وأمثالكم في غير ما يأخذه منكم جنده بالكرم، وأما إنه يحكم بإسقاط الفداء عنكم ويأمرهم بتركه وإطلاقكم مجانًا بما يعلم في قلوبكم من خير وإيمان كنتم تكتمونه فلا تطمعوا فيه لأن ذلك يفتح باب الدعاوى الباطلة المانعة من الغنائم الموهنة للدين؛ قال الحافظ أبو عمر بن عبد البر في سيرته: قال ابن عباس وسعيد بن المسيب: كان العباس- رضى الله عنهم- في الأسرى فقال له رسول صلى الله عليه وسلم: «افد نفسك وابني أخيك عقيلًا ونوفلًا وخليتك فإنك ذو مال»، فقال: يا رسول الله! إني كنت مسلمًا ولكن القوم استكرهوني، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الله أعلم بإسلامك، إن كان حقًا ما تقول فالله يجزيك به، وأما ظاهر أمرك فقد كان علينا»، قال: ليس لي مال، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: «وأين المال الذي وضعت عند أم الفضل حين خرجت وليس معك أحد؟ ثم قلت: إن أصبت في سفري هذا فأعطي الفضل كذا وعبد الله كذا!» فقال: والذي بعثك بالحق! ما علم بهذا أحد غيري وغيرها، ففدى نفسه بمائة أوقية وكل واحد بأربعين أوقية وقال: تركتني أسأل الناس، وأسلم وأمر عقيلًا فأسلم، ولم يسلم من الأساري غيرهما. اهـ.

.قال الفخر:

اعلم أن الرسول لما أخذ الفداء من الأسارى وشق عليهم أخذ أموالهم منهم، ذكر الله هذه الآية استمالة لهم فقال: {رَّحِيمٌ يا أيها النبي قُل لّمَن في أَيْدِيكُم مّنَ الاسرى}. اهـ.

.من أقوال المفسرين:

.قال الفخر:

قال ابن عباس رضي الله عنهما: نزلت في العباس، وعقيل بن أبي طالب، ونوفل بن الحرث، كان العباس أسيرًا يوم بدر ومعه عشرون أوقية من الذهب أخرجها ليطعم الناس، وكان أحد العشرة الذين ضمنوا الطعام لأهل بدر فلم تبلغه التوبة حتى أسر، فقال العباس: كنت مسلمًا إلا أنهم أكرهوني، فقال عليه السلام: «إن يكن ما تذكره حقًا فالله يجزيك» فأما ظاهر أمرك فقد كان علينا.
قال العباس: فكلمت رسول الله أن يرد ذلك الذهب علي، فقال: «أما شيء خرجت لتستعين به علينا فلا» قال: وكلفني الرسول فداء ابن أخي عقيل بن أبي طالب عشرين أوقية، وفداء نوفل بن الحرث، فقال العباس: تركتني يا محمد أتكفف قريشًا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أين الذهب الذي دفعته إلى أم الفضل وقت خروجك من مكة وقلت لها: لا أدري ما يصيبني، فإن حدث بي حادث فهو لك ولعبد الله وعبيد الله والفضل» فقال العباس: وما يدريك؟ قال: «أخبرني به ربي» قال العباس: فأنا أشهد أنك صادق وأن لا إله إلا الله وأنك عبده ورسوله، والله لم يطلع عليه أحد إلا الله، ولقد دفعته إليها في سواد الليل، ولقد كنت مرتابًا في أمرك، فأما إذ أخبرتني بذلك فلا ريب.
قال العباس: فأبدلني الله خيرًا من ذلك، لي الآن عشرون عبدًا، وإن أدناهم ليضرب في عشرين ألفًا، وأعطاني زمزم، وما أحب أن لي بها جميع أموال أهل مكة، وأنا أنتظر المغفرة من ربي.
وروي أنه قدم على رسول الله مال البحرين ثمانون ألفًا، فتوضأ لصلاة الظهر وما صلى حتى فرقه، وأمر العباس أن يأخذ منه، فأخذ ما قدر على حمله، وكان يقول: هذا خير مما أخذ مني، وأنا أرجو المغفرة.
واختلف المفسرون في أن الآية نازلة في العباس خاصة، أو في جملة الأسارى.
قال قوم: إنها في العباس خاصة، وقال آخرون: إنها نزلت في الكل، وهذا أولى، لأن ظاهر الآية يقتضي العموم من ستة أوجه: أحدها: قوله: {قُل لّمَن في أَيْدِيكُم} وثانيها: قوله: {مّنَ الاسرى} وثالثها: قوله: {فِي قُلُوبِكُمْ} ورابعها: قوله: {يُؤْتِكُمْ خَيْرًا} وخامسها: قوله: {مّمَّا أُخِذَ مِنكُمْ} وسادسها: قوله: {وَيَغْفِرْ لَكُمْ} فلما دلت هذه الألفاظ الستة على العموم، فما الموجب للتخصيص؟ أقصى ما في الباب أن يقال: سبب نزول الآية هو العباس، إلا أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب.
أما قوله: {إِن يَعْلَمِ الله فِي قُلُوبِكُمْ خَيْرًا} ففيه مسألتان:
المسألة الأولى:
يجب أن يكون المراد من هذا الخير: الإيمان والعزم على طاعة الله وطاعة رسوله في جميع التكاليف، والتوبة عن الكفر وعن جميع المعاصي، ويدخل فيه العزم على نصرة الرسول، والتوبة عن محاربته.
المسألة الثانية:
احتج هشام بن الحكم على قوله: إنه تعالى لا يعلم الشيء إلا عند حدوثه بهذه الآية، لأن قوله: {إِن يَعْلَمِ الله فِي قُلُوبِكُمْ خَيْرًا} فعل كذا وكذا شرط وجزاء، والشرط هو حصول هذا العلم، والشرط والجزاء لا يصح وجودهما إلا في المستقبل، وذلك يوجب حدوث علم الله تعالى.
والجواب: أن ظاهر اللفظ وإن كان يقتضي ما ذكره هشام، إلا أنه لما دل الدليل على أن علم الله يمتنع أن يكون محدثًا وجب أن يقال: ذكر العلم وأراد به المعلوم من حيث إنه يدل حصول العلم على حصول المعلوم.
أما قوله: {يُؤْتِكُمْ خَيْرًا مّمَّا أُخِذَ مِنكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ} ففيه مسألتان:
المسألة الأولى:
قال صاحب الكشاف: قرأ الحسن {مّمَّا أُخِذَ مِنكُمْ} على البناء للفاعل.
المسألة الثانية:
للمفسرين في هذا الخير أقوال:
القول الأول: المراد: الخلف مما أخذ منهم في الدنيا.
قال القاضي: لأنه تعالى عطف عليه أمر الآخرة بقوله: {وَيَغْفِرْ لَكُمْ} فما تقدم يجب أن يكون المراد منه منافع الدنيا.
ولقائل أن يقول: إن قوله: {وَيَغْفِرْ لَكُمْ} المراد منه إزالة العقاب، وعلى هذا التقدير: لم يبعد أن يكون المراد من هذا الخير المذكور أيضًا الثواب والتفضل في الآخرة.
والقول الثاني: المراد من هذا الخير ثواب الآخرة، فإن قوله: {وَيَغْفِرْ لَكُمْ} المراد منه في الآخرة، فالخير الذي تقدمه يجب أيضًا أن يكون في الدنيا.
والقول الثالث: أنه محمول على الكل.
فإن قيل: إذا حملتم الخير على خيرات الدنيا، فهل تقولون إن كل من أخلص من الأسارى قد آتاه الله خيرًا مما أخذ منه؟
قلنا: هكذا يجب أن يكون بحكم الآية، إلا أنا لا نعلم من المخلص بقلبه.
حتى يتوجه علينا فيه السؤال، ولا نعلم أيضًا من الذي آتاه الله علمًا، وقد علمنا أن قليل الدنيا مع الإيمان أعظم من كثير الدنيا مع الكفر.
ثم قال: {والله غَفُورٌ رَّحِيمٌ} وهو تأكيد لما مضى ذكره من قوله: {وَيَغْفِرْ لَكُمْ} والمعنى: كيف لا يفي بوعده المغفرة وأنه غفور رحيم؟. اهـ.